لبنان الإنسانيّ

   لا أعتقد أنّ على وجه البسيطة شعبًا أقرب إلى التفاهم والتعاون مع سائر الشعوب كالشعب اللبنانيّ، ولا أسرع منه في مسايرة التطوّر والتمشّي مع الزمن، ولا أخفّ منه إلى مبادلة الناس المحبّة والإنسانيّة إذا ما عرف فيهم الميل إلى التقرّب منه. وكرمه المعروف وحسن ضيافة أهليه للوافدين عليه وبشاشة وجوههم ليس إلّا مظهرًا من هذه المحبّة الكامنة في قلوب أبنائه.

   وعشرات الألاف من الأرمن والأكراد الذين استوطنوه منذ ثلاثين سنة، وألوف الأجانب الذين أقاموا فيه في مختلف الأزمان، لقوا من الإكرام وحسن المعاملة والمراعاة والعطف ما أنساهم أوطانهم الأصليّة التي ولدوا فيها، فبرهن بذلك عن روح إنسانيّة متأصّلة في نفوس ساكنيه الذكيّة. وتعلّم اللّبناني للغات عديدة، علاوة على لغته، بسرعة نادرة، ليست إلّا مظهرًا آخر يدلّل على طبعه السمح لتفهّم الناس والتفاهم معهم أينما كانوا. وشغفه في المهاجرة وتطويفه أطراف بلاد العالم شرقيها وغربيها، وامتزاجه بسكّانها من بيض وسود، وتعلّمه لغات أبنائها وإخلاصه لها، وخدمته إيّاها كأنّها وطنه الأصليّ، لبرهان ساطع يبيّن إنسانيّته وميوله في التعاون مع البشر أجمع.

   لهذا أرى أنّ مبادىء الأمم المتّحدة التي تدعون لها هي قريبة من قلبه، وهو حقل خصيب لزرعكم؛ والمعلّم اللبناني سيكون أكثر الناس مبادرة إلى العناية بهذا الزرع والسهر عليه ومعالجته حتّى ينمو ويزهر ويثمر.

   ولكنّ هذه المبادىء السليمة التي يحبّها لبنان وتبشّرون بها، قد عصفت بشجرتها ريح قويّة هوجاء مرّتين منذ زمن، لا يتجاوز عقدًا ونصف العقد، كادت أن تقتلعها، بل أقدر أن أقول إنّها زعزعتها وعرّضتها للخطر في كثير من النفوس، وأحدثت في الجسم اللبنانيّ نكسة تتطلّب زمنًا للشفاء. والعصفة الأولى حصلت في أيّام الانتداب يوم هبّت في الشمال السوريّ وانتزعت السحق من الوطن الأمّ دون أن تحرّك جمعيّة الأمم آنذاك ساكنًا فأصيبت العدالة والإنسانيّة بطعنة نجلاء لا يزال يحسّ بها كلّ متسلّح بمبادىء الأمم المتّحدة.

   والعصفة الثانية التي لم تهدأ بعد تمامًا هي التي طوّحت بفلسطين وشرّدت مليونًا من سكّانها الحقيقيّين الآمنين في ديارهم بدون حقّ ولا قانون إلّا قانون الاستبداد والقوّة والتآمر الدنيء.

   وذلك كلّه على مرأى ومسمع من قادة هيئة الأمم المتّحدة، دون أن تثور في نفوسهم روح الغيرة على المبادىء التي تدعو لها وتقدّمها شرعة حقوق الإنسان، فيهبّوا في وجه المغتصب ويوقفوه عند حدّه، ويعيدوا الحقّ إلى أصحابه ويجعلوه في نصابه؛ وهذا الموقف السلبيّ الدّال على أنّ هنالك من لا يعملون بما يقولون، أحدَث آثارًا سيّئة وجروحًا لا زالت تنزّ في جسم لبنان وسائر الأقطار العربيّة والشرقيّة، وهيهات أن تندمل إلّا بإحقاق الحق وإزهاق الباطل؛ ويصعب على الكثيرين من أبناء الجيل الحاضر الإيمان الفعليّ بمبادىء الأمم المتّحدة أن لم تتلافَ هذه الآفات، وتعمل على إزالة الحيف لخلق السلام والتفاهم في هذه الربوع.

                                                                                                                      يوسف س. نويهض   

                                                                                   الكلّيّة العلمانيّة الفرنسيّة 

                                                                                    بيروت